بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُواآَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( 3)أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَايَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُواالصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ
(7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8 ) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَنَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُبِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ )) (العنكبوت:1-10)
قال ابن القيم:
فليتأملِ العبدُ سياقَ هذِهِ الآياتِ، وما تضمنَّته منالعِبَرِ وكُنُوز الحِكَم، فإنَّ الناسَ إذَا أُرسِلَ إليهم الرُّسُلُ بين أمرين: إما أن يقولَ أحدهُم: آمنا، وإما ألا يقولَ ذلك، بل يستمرَّ على السيَّئاتِ والكُفر، فمَن قال: آمنا، امتحنه ربُّه، وابتلاه، وفتنه، والفتنة: الابتلاءوالاختبار، ليتبينَ الصادِقُ مِن الكاذِب، ومَن لم يقل: آمنا، فلا يَحْسَبْ أنهيُعْجِزُ الله ويفوتُه ويَسبِقُه، فإنه إنما يطوى المراحِلَ فى يديه
وكَيفَ يَفِرُّ المرْءُ عَنْـهُ بِذَنْبِـهِ
ِذَا كَانَ تُطْوى فى يَدَيْهِ المرَاحِلُ
فمَن آمن بالرُّسُلِ وأطاعهم، عاداه أعداؤهم وآذوه، فابتُلى بما يُؤلِمه، وإن لم يُؤمن بهم ولم يُطعهم، عُوقِبَ فى الدنيا والآخرة، فَحَصَلَ له ما يُؤلمه، وكان هذا المؤلمُ له أعظَمَ ألماً وأدومَ مِن ألم اتِّباعهم، فلا بد من حصول الألم لكل نفسٍ آمنت أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم فى الدنيا ابتداءً، ثم تكون له العاقبةُ فى الدنيا والآخرة، والمُعرِضُ عن الإيمان تحصلُ له اللَّذةُ ابتداءً، ثم يَصير إلى الألم الدائم. وسئل الشافعى رحمه الله أيُّما أفضلُ للرجل، أن يُمكَّن أو يُبتلى ؟ فقال: لا يُمكَّن حتى يُبتلى. والله تعالى ابتلى أُولى العَزْمِ مِن الرسل فلما صَبَرُوا مكَّنهم، فلا يَظُنَّ أحد أنه يخلص من الألم البتة، وإنما يتفاوتُ أهلُ الآلام فى العُقُول، فأعقلُهم مَنْ باع ألماً مستمِراً عظيماً، بألم منقطع يسير، وأشقاهُم مَنْ باع الألَمَ المنقطِعَ اليسير، بالألم العظيم المستمر.
فإن قيل: كيف يختار العاقلُ هذا ؟ قيل: الحاملُ له على هذا النَّقْدُ، والنَّسيئة.
والنَّفْسُ مُوكلةٌ بِحُبِّ العَاجِلِ.
( كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ،إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً.)
قا ابن القيم: وهذا يحصُل لكل أحد، فإن الإنسان مدنى بالطَّبع، لا بُد له أن يعيشَ مع الناس، والناسُ لهم إرادات وتصورات، فيطلبُون منه أن يُوافِقهم عليها، فإن لم يوافقهم، آذوْه وعذَّبوه، وإن وافقهم، حَصَلَ له الأذى والعذابُ، تارةً منهم، وتارةً مِن غيرهم، كمن عنده دِينٌ وتُقى حلَّ بين قوم فُجَّارٍ ظَلَمَةٍ، ولا يتمكنون مِن فجورهم وظُلمهم إلا بموافقته لهم، أو سكوتِه عنهم، فإن وافقهم، أو سكت عنْهم، سَلِمَ مِن شرهم في الابتداء، ثم يتسلَّطُونَ عليه بالإهانة والأذى أضعافَ ما كان يخافهُ ابتداء، لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سَلِمَ منهم، فلا بد أن يُهان ويُعاقَب على يد غيرهم، فالحزمُ كُلُّ الحزم في الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية: مَنْ أَرْضَى الله بِسَخَطِ النَّاسِ، كَفَاهُ الله مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ الله لم يُغْنُوا عَنْهُ مِنَ الله شَيْئَاً.
وقال ابن القيم:
ومَنْ تأمل أحوالَ العالَم، رأى هذا كثيراً فيمن يُعينُ الرؤساءَ على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يُعينُ أهلَ البِدَعِ على بِدعهم هَرَباً من عُقوبتهم، فمَنْ هداه الله، وألهمه رُشده، ووقاه شرَّ نفسه، امتنع مِن الموافقة على فِعل المحرَّم، وصَبَرَ على عُدوانهم، ثم تكونُ له العاقبةُ في الدنيا والآخرة، كما كانت لِلرُّسل وأتباعهِم، كالمهاجرين، والأنصار، ومَن ابتُلى مِن العلماء، والعُبَّاد، وصالحى الوُلاة، والتجار، وغيرهم.
وقال ابن القيم:
ولما كان الألم لا محيص منه البتة، عزى الله سبحانه من اختار الألم اليسير المنقطع على الألم العظيم المستمر بقوله: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(العنكبوت: 5]. فضرب لمدة هذا الألم أجلا، لابد أن يأتي، وهو يوم لقائه، فيلتذ العبد أعظم اللذة بما تحمل من الألم من أجله، وفي مرضاته، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمل من الألم في الله والله، وأكد هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه، ليحمل العبد اشتياقه إلى لقاء ربه ووليه على تحمل مشقة الألم العاجل، بل ربما غيبه الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس به، ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه الشوق إلى لقائه، فقال في الدعاء الذي روا أحمد وابن حبان: اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحييني إذا كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.